فصل: قال الخازن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخازن:

قوله عزّ وجلّ: {والفجر}
أقسم الله عزّ وجلّ بالفجر وما بعده لشرفها وما فيها من الفوائد الدينية وهي أنها دلائل باهرة، وبراهين قاطعة، على التوحيد، وفيها من الفوائد الدنيوية أنها تبعث على الشكر.
واختلفوا في معاني هذه الألفاظ، فروي عن ابن عباس، أنه قال: الفجر هو انفجار الصبح في كل يوم، أقسم الله تعالى به لما يحصل فيه من انقضاء الليل، وظهور الضوء، وانتشار الناس، وسائر الحيوانات في طلب الأرزاق، وذلك يشبه نشر الموتى من قبورهم للبعث.
وعن ابن عباس أيضًا أنه صلاة الفجر، والمعنى أنه أقسم بصلاة الفجر لأنها مفتتح النهار، ولأنها مشهودة يشهدها ملائكة الليل، وملائكة النهار، وقيل إنه فجر معين.
واختلفوا فيه، فقيل هو فجر أول يوم من المحرم، لأن منه تنفجر السنة وقيل هو فجر ذي الحجة، لأنه قرن به الليالي العشر، وقيل هو فجر يوم النحر، لأن فيه أكثر مناسك الحج، وفيه القربات.
{وليال عشر} قيل إنما نكرها لما فيها من الفضل، والشرف الذي لا يحصل في غيرها.
روي عن ابن عباس أنها العشر الأول من ذي الحجة لأنها أيام الاشتغال بأعمال الحج، وأخرج الترمذي عن ابن عباس أن رسول الله قال: «ما من أيام العمل فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر»، وذكر الحديث، وروي عن ابن عباس قال: هي العشر الأواخر من رمضان، لأن فيها ليلة القدر، ولأن رسول الله كان إذا دخل العشر الأخير من رمضان أحيا ليله، وشد مئزره، وأيقظ أهله، يعني للعبادة؛ وقيل هي العشر الأول من المحرم، وهو تنبيه على شرفه، ولأن فيه يوم عاشوراء.
{والشفع والوتر} قيل الشفع هو الخلق، والوتر هو الله تعالى يروى ذلك عن أبي سعيد الخدري، وقيل الشفع هو الخلق كالإيمان والكفر، والهدى، والضلالة، والسعادة، والشقاوة، والليل، والنهار، والأرض، والسماء، والشمس، والقمر، والبر، والبحر، والنور، والظلمة، والجن، والإنس.
والوتر هو الله تعالى، وقيل الخلق كله فيه شفع وفيه وتر.
وقيل هما الصلوات منها شفع ومنها وتر عن عمران بن حصين «أن رسول الله سئل عن الشفع والوتر قال: هي الصلاة بعضها شفع وبعضها وتر» أخرجه الترمذي.
وقال: حديث غريب وعن ابن عباس قال: الشفع صلاة الغداة، والوتر صلاة المغرب، وعن عبد الله بن الزبير قال: الشفع النفر الأول، والوتر النفر الأخير، وروي أن رجلاً سأله عن الشفع، والوتر، والليالي العشر فقال: أما الشفع والوتر فقول الله عزّ وجلّ: {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه} فهما الشفع والوتر، وأما الليالي العشر فالثمان، وعرفة والنحر، وقيل الشفع الأيام، والليالي؛ والوتر اليوم الذي لا ليلة معه، وهو يوم القيامة، وقيل الشفع درجات الجنة لأنها ثمان، والوتر دركات النار لأنها سبع، فكأنه أقسم بالجنة، والنار.
وقيل الشفع أوصاف المخلوقين المتضادة، مثل العز، والذل، والقدرة، والعجز، والقوة، والضعف، والغنى، والفقر، والعلم، والجهل، والبصر، والعمى، والموت، والحياة، والوتر، صفات الله تعالى التي تفرد بها عزّ بلا ذل، وقدرة بلا عجز، وقوة بلا ضعف، وغنى بلا فقر، وعلم بلا جهل، وحياة بلا موت.
{والليل إذا يسر} أي إذا سار وذهب، وقيل إذا جاء، وأقبل، وأراد به كل ليلة، وقيل هي ليلة المزدلفة، وهي ليلة النحر التي يسار فيها من عرفات إلى مزدلفة فعلى هذا يكون المعنى واليل الذي يسار فيه.
{هل في ذلك} أي فيما ذكرت {قسم} مقنع ومكتفي في القسم فهو استفهام بمعنى التأكيد.
{لذي حجر} أي لذي عقل سمي بذلك لأنه يحجر صاحبه عما لا يحل له، ولا ينبغي كما سمي عقلاً لأنه يعقل صاحبه عن القبائح، وسمي نهيه لأنه ينهى عما لا يحل، ولا ينبغي وأصل الحجر المنع، ولا يقال ذو حجر إلا لمن هو قاهر لنفسه ضابط لها عما لا يليق، كأنه حجر على نفسه ومنعها ما تريد، والمعنى إن من كان ذا لب، وعقل علم أن ما أقسم الله عزّ وجلّ به من هذه الأشياء فيه عجائب، ودلائل تدل على توحيده، وربوبيته.
فهو حقيق بأن يقسم به لدلالته على خالقه.
قيل جواب القسم قوله تعالى: {إن ربك لبالمرصاد} واعترض بين القسم وجوابه قوله تعالى: {ألم تر كيف فعل ربك بعاد}، وقيل جواب القسم محذوف وتقديره ورب هذه الأشياء ليعذبن الكافر يدل عليه قوله تعالى: {ألم تر كيف فعل ربك بعاد}؟ إلى قوله: {فصب عليهم ربك سوط عذاب} وقوله عزّ وجلّ: {ألم تر كيف فعل ربك}؟ أي ألم تعلم وإنما أطلق لفظ الرؤية على العلم لأن أخبار عاد وثمود وفرعون كانت معلومة عندهم.
وقوله: {ألم تر} خطاب للنبي ولكنه عام لكل أحد.
{كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد} المقصود من ذلك تخويف أهل مكة وكيف أهلكهم وهم كانوا أطول أعماراً، وأشد قوة، من هؤلاء فأما عاد فهو عاد بن عوص بن ارم بن سام بن نوح، ومنهم من يجعل عاداً اسماً للقبيلة لقوله تعالى: {وإنه أهلك عاداً الأولى} وإرم هو جد عاد على ما ذكر في نسبه عاد.
وقيل إن المتقدمين من قوم عاد كانوا يسمون بإرم اسم جدهم.
وقيل إرم هم قبيلة من عاد، وكان فيهم الملك، وكانوا بمهرة اسم موضع باليمن وكان عاد أباهم فنسبوا إليه وهو إرم بن عاد بن شيم بن سام بن نوح؛ وقال الكلبي: إرم هو الذي يجتمع إليه نسب عاد وثمود أهل السواد، وأهل الجزيرة، وكان يقال عاد إرم وثمود إرم فأهلك عاد وثمود، وأبقى أهل السواد، وأهل الجزيرة؛ وقال سعيد بن المسيب: {إرم ذات العماد} دمشق وقيل الإسكندرية، وفيه ضعف لأن منازل عاد كانت من عمان إلى حضرموت، وهي بلاد الرمال والأحقاف.
وقيل إن عاداً كانوا أهل عمد وخيام وماشية سيارة في الربيع فإذا هاج العود ويبس رجعوا إلى منازلهم، وكانوا أهل جنان وزروع ومنازلهم بوادي القرى، وهي التي قال الله تعالى: {التي لم يخلق مثلها في البلاد} وسموا {ذات العماد} لأنهم كانوا أهل عمد سيارة، وهو قول قتادة ومجاهد والكلبي، ورواية ابن عباس.
وقيل سموا {ذات العماد} لطول قامتهم يعني طولهم، مثل العماد في الشبه، قال مقاتل: كان طول أحدهم اثني عشر ذراعاً، وقوله: {التي لم يخلق مثلها في البلاد} يعني لم يخلق مثل تلك القبيلة في الطول، والقوة، وهم الذين قالوا {من أشد منا قوة} وقيل سموا {ذات العماد} لبناء بناه بعضهم، فشيد عمده ورفع بناءه، وقيل كان لعاد ابنان شداد وشديد فملكا بعده، وقهرا البلاد والعباد فمات شديد وخلص الملك لشداد فملك الدنيا ودانت له ملوكها وكان يحب قراءة الكتب القديمة فسمع بذكر الجنة وصفتها فدعته نفسه إلى بناء مثلها عتواً على الله وتجبراً.
روى وهب بن منبه عن عبد الله بن قلابة أنه خرج في طلب إبل له شردت فبينما هو يسير في صحارى عدن إذ وقع على مدينة في تلك الفلوات عليها حصن وحول الحصن قصور كثيرة فلما دنا منها ظن أن فيها أحدا يسأله عن إبله فلم ير خارجاً ولا داخلاً فنزل عن دابته وعقلها، وسل سيفه ودخل من باب المدينة فإذا هو ببابين عظيمين وهما مرصعان بالياقوت الأحمر فلما رأى ذلك دهش، ففتح الباب ودخل، فإذا هو بمدينة لم ير أحد مثلها، وإذا فيها قصور في كل قصر منها غرف، وفوق الغرف غرف مبنية بالذهب، والفضة، وأحجار اللؤلؤ والياقوت؛ وإذا أبواب تلك القصور مثل مصاريع باب المدينة يقابل بعضها بعضاً وهي مفروشة كلها باللؤلؤ وبنادق المسك والزعفران، فلما عاين ذلك ولم ير أحدا هاله ذلك ثم نظر إلى الأزقة فإذا في تلك الأزقة أشجار مثمرة، وتحت تلك الأشجار أنهار مطردة يجري ماؤها في قنوات من فضة فقال الرجل في نفسه هذه الجنة وحمل معه من لؤلؤ ترابها ومن بنادق مسكها وزعفرانها، ورجع إلى اليمن وأظهر ما كان معه وحدّث بما رأى فبلغ ذلك معاوية، فأرسل إليه فقدم عليه فسأله عن ذلك فقص عليه ما رأى فأرسل معاوية إلى كعب الأحبار فلما أتاه قال له: يا أبا إسحاق هل في الدنيا مدينة من ذهب وفضة قال نعم هي إرم ذات العماد بناها شداد بن عاد قال: فحدثني حديثها فقال لما أراد شداد بن عاد عملها أمر عليها مائة قهرمان مع كل قهرمان ألف من الأعوان، وكتب إلى ملوك الأرض أن يمدوه بما في بلادهم من الجواهر فخرجت القهارمة يسيرون في الأرض ليجدوا أرضاً موافقة فوقفوا على صحراء نقية من التلال وإذا فيها عيون ماء ومروج فقالوا هذه الأرض التي أمر الملك أن نبني فيها فوضعوا أساسها من الجزع اليماني، وأقاموا في بنائها ثلاثمائة سنة، وكان عمر شداد تسعمائة سنة فلما أتوه وقد فرغوا منها قال: انطلقوا فاجعلوا حصناً يعني سوراً واجعلوا حوله ألف قصر وعند كل قصر ألف علم ليكون في كل قصر وزير من وزرائي ففعلوا وأمر الملك وزراءه وهم ألف وزير أن يتهيؤا للنقلة إلى إرم ذات العماد، وكان الملك وأهله في جهازهم عشر سنين ثم ساروا إليها فلما كانوا من المدينة على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليه وعلى من كان معه صيحة من السماء فأهلكتهم جميعاً، ولم يبق منهم أحد ثم قال كعب: وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال، وعلى عنقه خال يخرج في طلب إبل له ثم التفت فأبصر عبد الله بن قلابة فقال: هذا والله ذلك الرجل.
قوله عزّ وجلّ: {وثمود} أي وفعل بثمود مثل ما فعل بعاد {الذين جابوا} أي قطعوا {الصخر} أي الحجر {بالواد} يعني بوادي القرى وكانت ثمود أول من قطّع الصخر ونحته واتخذوا مساكن في الجبال وبيوتاً.
{وفرعون ذي الأوتاد} سمي بذلك لكثرة جنوده وكثرة مضاربهم وخيامهم التي كانوا يضربونها، إذا نزلوا، وقيل معناه ذي الملك كما قيل في ظل ملك راسخ الأوتاد.
وقيل سمي بذلك لأنه كان يعذب الناس بالأوتاد.
وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عباس أن فرعون إنما سمي ذا الأوتاد لأنه كانت عنده امرأة مؤمنة وهي امرأة خازنة حزقيل وكان مؤمناً كتم إيمانه مائة سنة وكانت امرأته ماشطة بنت فرعون فبينما هي ذات يوم تمشط رأس بنت فرعون إذ سقط المشط من يدها فقالت تعس من كفر بالله فقالت بنت فرعون وهل لك من إله غير أبي فقالت إلهي وإله أبيك وإله السموات والأرض واحد لا شريك له فقامت ودخلت على أبيها وهي تبكي فقال لها ما يبكيك قالت الماشطة امرأة خازنك تزعم أن إلهك وإلهنا وإله السموات والأرض واحد لا شريك له فأرسل إليها فسألها عن ذلك فقالت صدقت فقال لها: ويحك اكفري بإلهك وقري أني إلهك قالت لا أفعل فمدها بين أربعة أوتاد ثم أرسل عليها الحيات والعقارب وقال لها: اكفري بالله وإلا عذبتك بهذا العذاب شهرين فقالت لو عذبتني سبعين شهراً ما كفرت بالله وكان لها ابنتان فجاء فابنتها الكبرى فذبحها على قلبها ثم قال اكفري بالله وإلا ذبحت الصغرى على فيك وكانت رضيعاً فقالت لو ذبحت من في الأرض على فيّ ما كفرت بالله عزّ وجلّ فأتى بابنتها فلما اضطجعت على صدرها وأراد ذبحها جزعت المرأة فأطلق الله لسان ابنتها فتكلمت وهي من الأربعة الذين تكلموا في المهد صغاراً أطفالاً وقالت يا أماه لا تجزعي فإن الله قد بنى لك بيتاً في الجنة فاصبري فإنك تفضين إلى رحمة الله وكرامته فذبحت فلم تلبث الأم أن ماتت فأسكنها الله الجنة قال: وبعث في طلب زوجها حزقيل فلم يقدروا عليه فقيل لفرعون إنه قد رؤي في موضع كذا في جبل كذا فبعث رجلين في طلبه فانتهى إليه الرجلان، وهو يصلي وثلاثة صفوف من الوحش خلفه يصلون فلما رأوا ذلك انصرفوا فقال، حزقيل: اللّهم إنك تعلم أني كتمت إيماني مائة سنة ولم يظهر على أحد فأيما هذين الرجلين كتم على فاهده إلى دينك وأعطه من الدنيا سؤاله وأيما هذين الرجلين أظهر على فعجل عقوبته في الدنيا واجعل مصيره في الآخرة إلى النار فانصرف الرجلان إلى فرعون فأما أحدهما فاعتبر وآمن وأما الآخر فأخبر فرعون بالقصة على رؤوس الملأ فقال له فرعون وهل معك غيرك قال نعم فلان فدعا به فقال أحق ما يقول هذا قال ما رأيت مما يقول شيئاً فأعطاه فرعون وأجزل وأما الآخر فقتله ثم صلبه قال: وكان فرعون قد تزوج امرأة من أجمل نساء بني إسرائيل يقال لها آسية بنت مزاحم، فرأت ما صنع فرعون بالماشطة، فقالت وكيف يسعني أن أصبر على ما يأتي فرعون وأنا مسلمة وفرعون كافر؟ فبينما هي كذلك تؤامر نفسها إذ دخل عليها فرعون فجلس قريباً منها، فقالت يا فرعون أنت أشر الخلق وأخبثهم، عمُدَّتْ إلى الماشطة فقتلتها قال فلعل بك الجنون الذي كان بها، قالت: ما بي جنون وإن إلهها وإلهك وإلهي وإله السموات والأرض واحد لا شريك له فبصق عليها وضربها، وأرسل إلى أبيها وأمها فدعاهما وقال لهما: إن الجنون الذي كان بالماشطة أصابها، قالت: أعوذ بالله من ذلك، إني أشهد أن ربي وربك ورب السموات والأرض واحد لا شريك له، فقال لها أبوها: يا آسية ألست من خير نساء العماليق، وزوجك إله العماليق قالت: أعوذ بالله من ذلك إن كان ما يقول حقًّا فقولا له أي يتوجني تاجاً تكون الشمس أمامه والقمر خلفه والكواكب حوله.
قوله عزّ وجلّ: {الذين طغوا في البلاد} يعني عاداً وثموداً وفرعون عملوا بالمعاصي، وتجبروا، ثم فسر ذلك الطغيان بقوله: {فأكثروا فيها الفساد} يعني القتل والفساد ضد الصلاح، فكما أن الصلاح يتناول جميع أقسام البر فكذلك الفساد يتناول جميع أقسام الإثم.
{فصب عليهم ربك سوط عذاب} يعني لوناً من العذاب صبّه عليهم، وقيل هو تشبيه بما يكون في الدنيا من العذاب بالسوط، وقيل هو إشارة إلى ما خلط لهم من العذاب، لأن أصل السوط خلط الشيء بعضه ببعض؛ وقيل هذا على الاستعارة، لأن السوط غاية العذاب فجرى ذلك لكل نوع منه.
وقيل جعل سوطه الذي ضربهم به العذاب، وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية يقول إن عند الله أسواطاً كثيرة، فأخذهم بسوط منها.
{إن ربك لبالمرصاد} قال ابن عباس يعني بحيث يرى ويسمع، وقيل عليه طريق العباد، لا يفوته أحد وقيل عليه ممر الناس لأن الرصد والمرصاد الطريق.
وقيل ترجع الخلق إلى حكمه وأمره وإليه مصيرهم، وقيل إنه يرصد أعمال بني آدم.
والمعنى أنه لا يفوته شيء من أعمال العباد، كما لا يفوت من المرصاد، وقد قيل أرصد النار على طريقهم حتى تهلكهم.
قوله عزّ وجلّ: {فأما الإنسان إذا ما ابتلاه} أي امتحنه {ربه} أي بالنعمة {فأكرمه} أي بالمال {ونعمه} أي بما يوسع عليه {فيقول ربي أكرمن} أي بما أعطاني من المال والنعمة.
{وأما إذا ما ابتلاه} يعني بالفقر {فقدر عليه} أي فضيق عليه، وقيل قتر.
{رزقه} أي وقد أعطاه ما يكفيه.
{فيقول ربي أهانن} أي أذلني بالفقر، قيل نزلت في أمية بن خلف الجمحي الكافر، وقيل ليس المراد به واحدا بعينه، بل المراد جنس الكافر، وهو الذي تكون الكرامة والهوان عنده بكثرة المال والحظ في الدنيا وقلته فرد الله تعالى على من ظن أن سعة الرزق إكرام وأن الفقر إهانة فقال تعالى: {كلا} أي ليس الأمر كذلك، أي لم أبتله بالغنى لكرامته، ولم أبتله بالفقر لهوانه، فأخبر أن الإكرام والإهانة لا يدوران على المال، وسعة الرزق وقلته، ولكن الغنى والفقر بتقدير الله جلّ جلاله وحكمته فقد يوسع على الكافر لا لكرامته، ويضيق على المؤمن لا لهوانه، لكن لأمر اقتضته حكمة الله تعالى، وإنما يكرم المرء بطاعته، ويهينه بمعصيته، وقد يوسع على الإنسان من أصناف المال ليختبره، أيشكر أم يكفر، ويضيق عليه ليختبره، أيصبر أم يضجر، ويقلق.
{بل لا تكرمون اليتيم} أي لا يعطونه حقه الثابت له في الميراث قال مقاتل: كان قدامة بن مظعون يتيماً في حجر أمية بن خلف، فكان يدفعه عن حقه.
{ولا تحضون على طعام المسكين} أي لا يطعمون مسكيناً، ولا يأمرون بإطعامه، وقرئ {ولا يحاضون} ومعناه، ولا يحض بعضهم بعضاً على ذلك.
{وتأكلون التراث} أي الميراث {أكلا لمّاً} أي شديداً، والمعنى أنه يأكل نصيبه ونصيب غيره، وذلك أنهم كانوا في الجاهلية لا يورثون النساء، ولا الصبيان، ويأكلون نصيبهم، وقيل الآكل اللم الذي يأكل كل شيء يجده لا يسأل أحلال أم حرام، فيأكل الذي له ولغيره.
{وتحبون المال حبًّا جمّاً} أي كثيراً والمعنى يحبون جمع المال، ويولعون به، وبحبه.
{كلا} أي لا ينبغي أن يكون الأمر هكذا، من الحرص على جمع المال وحبه.
وقيل معناه لا يفعلون ما أمروا به من إكرام اليتيم وغيره من المسلمين، ثم أخبر عن تلهّفهم على ما سلف منهم، وذلك حين لا ينفعهم الندم.
فقال تعالى: {إذا دكت الأرض دكاً دكاً} أي دقت وكسرت مرة بعد مرة، وكسر كل شيء عليها من جبل وبناء وغيره، حتى لا يبقى على ظهرها شيء.
{وجاء ربك} اعلم أن هذه الآية من آيات الصفات التي سكت عنها وعن مثلها عامة السلف وبعض الخلف، فلم يتكلموا فيها وأجروها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تأويل، وقالوا يلزمنا الإيمان بها وأجراؤها على ظاهرها، وتأولها بعض المتأخرين، وغالب المتكلمين فقالوا ثبت بالدليل العقلي، أن الحركة على الله محال، فلابد من تأويل الآية.
فقيل في تأويلها وجاء أمر ربك بالمحاسبة والجزاء.
وقيل جاء أمر ربك وقضاؤه.
وقيل وجاء دلائل آيات ربك فجعل مجيئها مجيئاً له تفخيماً لتلك الآيات.
{والملك صفاً صفاً} أي تنزل ملائكة كل سماء {صفاً صفاً} على حدة، فيصطفون صفاً بعد صف، محدقين بالجن والإنس، فيكونون سبع صفوف.
{وجيء يومئذ} يعني يوم القيامة {بجهنم} قال ابن مسعود: في هذه الآية «تقاد جهنم بسبعين ألف زمام، كل زمام بيد سبعين ألف ملك، لها تغيط وزفير حتى تنصب عن يسار العرش» {يومئذ} يعني يوم يجاء بجهنم {يتذكر الإنسان} أي يتعظ الكافر ويتوب.
{وأنى له الذكرى} يعني أنه يظهر التوبة، ومن أين له التوبة.
{يقول يا ليتني قدمت لحياتي} أي قدمت الخير، والعمل الصالح لحياتي في الآخرة التي لا موت فيها.
{فيومئذ لا يعذب عذابه أحد} أي لا يعذب أحد في الدنيا كعذاب الله الكافر يومئذ.
{ولا يوثق وثاقه أحد} يعني لا يبلغ أحد من الخلق كبلاغ الله في العذاب، والوثاق هو الأسر في السلاسل، والأغلال، وقرئ {لا يعذب}، و{لا يوثق} بفتح الذال والثاء، ومعناه لا يعذب عذاب هذا الكافر أحد، ولا يوثق وثاقه أحد، وهو أمية بن خلف، وذلك لشدة كفره وعتوه.
قوله عزّ وجلّ: {يا أيتها النفس المطمئنة} أي الثابتة على الإيمان، والإيقان، المصدقة بما قال الله تعالى، الموقنة التي قد أيقنت بالله تعالى، وبأن الله ربها، وخضعت لأمره، وطاعته، وقيل {المطمئنة} المؤمنة، الموقنة، وقيل هي الراضية بقضاء الله، وقيل هي الآمنة من عذاب الله، وقيل هي المطمئنة بذكر الله؛ قيل نزلت في حمزة بن عبد المطلب حين استشهد بأحد، وقيل في حبيب بن عدي الأنصاري، وقيل في عثمان حين اشترى بئر رومة وسبلها وقيل في أبي بكر الصديق؛ والأصح أن الآية عامة في كل نفس مؤمنة مطمئنة، لأن هذه السورة مكية {ارجعي إلى ربك} أي إلى ما وعد ربك من الجزاء والثواب، قيل يقال لها ذلك عند خروجها من الدنيا.
قال عبد الله بن عمر: «إذا توفي العبد المؤمن أرسل الله عزّ وجلّ إليه ملكين، وأرسل إليه بتحفة من الجنة، فيقال اخرجي أيتها النفس المطمئنة اخرجي إلى روح وريحان، وربك عنك راض، فتخرج كأطيب ريح مسك وجده أحد في أنفه، والملائكة على أرجاء السماء يقولون قد جاء من الأرض روح طيبة ونسمة طيبة فلا تمر بباب إلا فتح لها، ولا بملك، إلا صلى عليها حتى يؤتى بها الرحمن جل جلاله، فتسجد له ثم يقال لميكائيل إذهب بهذه النفس فاجعلها مع أنفس المؤمنين، ثم يؤمر فيوسع عليه قبره سبعون ذراعاً عرضه، وسبعون ذراعاً، طوله وينبذ له فيه الروح والريحان، فإن كان معه شيء من القرآن كفاه نوره، وإن لم يكن جعل له نور مثل الشمس في قبره، ويكن مثله مثل العروس ينام فلا يوقظه إلا أحب أهله إليه، وإذا توفي الكافر أرسل الله إليه ملكين، وأرسل قطعة من بجاد أي من كساء أنتن من كل نتن، وأخشن من كل خشن، فيقال أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى جهنم وعذاب أليم، وربك عليك غضبان».
وقيل في معنى قوله: {ارجعي إلى ربك} أي إلى صاحبك وهو الجسد، وإنما يقال لا ذلك عند البعث فيأمر الله الأرواح أن ترجع إلى أجسادها، وهو قول عكرمة وعطاء والضحاك ورواية عن ابن عباس.
فإذا كان يوم القيامة قيل لها.
{فادخلي في عبادي} أي في جملة عبادي، الصالحين المصطفين {وادخلي جنتي} قال سعيد بن جبير: مات ابن عباس بالطائف فشهدت جنازته، فجاء طائر لم ير على خلقه طائر قط، فدخل نعشه ثم لم ير خارجاً منه، فلما دفن تليت هذه الآية على شفير القبر لا يدرى من تلاها {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية وادخلي في عبادي وادخلي جنتي}.
وقال: بعض أهل الإشارة في تفسير هذه الآية يا أيتها النفس المطمئنة إلى الدنيا، ارجعي إلى ربك بتركها، والرجوع إليه هو سلوك سبيل الآخرة والله أعلم. اهـ.